الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الألوسي: {الله نُورُ السموات والأرض}.النور في اللغة على ما قال ابن السكيت الضياء وهذا ظاهر في عدم الفرق بين النور والضياء، وفرق بينهما جمع وإن كان إطلاق أحدهما على الآخر شائعًا فقال الإمام السهيلي في الروض في قول ورقة:إنه يوضح معنى النور والضياء وإن الضياء هو المنتشر عن النور والنور هو الأصل، وفي التنزيل {فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] {وَهُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُورًا} [يونس: 5] لأن نور القمر لا ينتشر عنه ما ينتشر عن الشمس لاسيما في طرفي الشهر، وقال الفلاسفة: الضياء ما يكون للشيء من ذاته والنور ما يفيض عليه من مقابلة المضىء وعلى هذا جاء فيما زعم إسلاميوهم قوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَاء والقمر نُورًا} [يونس: 5] فإن اختلاف تشكلات القمر بالقرب والبعد من الشمس مع خسوفه وقت حيلولة الأرض بينه وبينها دليل على أن نوره فائض عليه من مقابلتها، وأنت تعلم أن في هذا مقالًا لعلماء الإسلام وقد قدمنا ما فيه في غير هذا المقام، ولعل الأولى في وجه الفرق ما تقدم آنفًا في كلام السهيلي.وذكر بعض المحققين أنه يعلم من كلامهم أن لكل من النور والضياء جهة أبلغية فجهة أبلغية النور كونه أصلًا ومبدأ للضياء وجهة أبلغية الضياء أن الإبصار بالفعل بمدخليته.وادعى بعضهم أن النور على الإطلاق أبلغ من الضياء للآية التي نحن فيها، وفيه بحث يعلم إن شاء الله تعالى أثناء تفسيرها، واعلم أن الفلاسفة اختلفوا في حقيقة النور فمنهم من زعم أنه أجسام صغار تنفصل عن المضىء وتتصل بالمستضىء وأبطل بعدة أوجه، الأول: أنه لو كان جسمًا متحركًا لكانت حركته طبيعية والحركة الطبيعية إلى جهة واحدة دون سائر الجهات لكن النور يقع على الجسم في كل جهة كانت له، والثاني: أنه إذا دخل من كوة ثم سددناها دفعة فتلك الأجزاء النورانية إما أن تكون باقية في البيت فيلزم أن يكون البيت مستنيرًا كما كان قبل السد وليس كذلك وإما أن تكون خارجة من الكوة قبل انسدادها وهو محال لأن السد كان سبب انقطاعها فلابد أن يكون سابقًا عليه بالذات أو بالزمان وإما أن تكون غير باقية أصلًا فيلزم أن يكون تخلخل جسم بين جسمين موجبًا انعدام أحدهما وهو معلوم الفساد، والثالث: أن كون تلك الأجسام الصغار أنوارًا إما أن يكون هو عين كونها أجسامًا وهو باطل لأن المفهوم من النورية مغاير للمفهوم من الجسمية وإما أن يكون مغايرًا لها بأن تكون تلك الأجسام حاملة لتلك الكيفية منفصلة من المضيء متصلة بالمستضيء فإن لم تكن تلك الأجسام محسوسة فهو ظاهر البطلان لأنها حينئذ كيف تكون واسطة لإحساس غيرها وإن كانت محسوسة كانت ساترة لما وراءها ويجب أنها كلما ازدادت اجتماعًا ازدادت سترًا لكن الأمر بالعكس فإن النور كلما ازداد قوة ازداد إظهارًا، والرابع: أن الشمس إذا طلعت من الأفق يستنير وجه الأرض كله دفعه ومن البعيد أن تنتقل تلك الأجزاء من الفلك الرابع إلى وجه الأرض في تلك اللحفظة اللطيفة، ولا يخفى حاله على القول باستحالة الخرق على الأفلاك، والخامس: أن انفصال الأجزاء من الأجرام الكوكبية يستلزم الذبول والانتقاص وخلو مواضعها عن تمام مقدارها أو مقدار أجزائها أو كونها دائمة التحليل مع إيراد البدل عما يتحلل عن جرمها فتكون أجسامها أجسامًا مستحيلة غذائية فاسدة وذلك محال في الفلكيات.وتعقبها بعض متأخريهم بأنها في غاية الضعف أما الأول: فلأن كون النور جسمًا لا يستلزم كونه متحركًا ولا كون حدوثه بالحركة بل هو مما يوجد دفعة بلا حركة، وأما الثاني: فلقائل أن يقول: إن قيام المجعول بلا مادة إنما يكون بالفاعل الجاهل إياه مع اشتراط عدم الحجاب المانع عن الإفاضة فإذا طرأ المانع لم تقع الإفاضة فينعدم المفاض بلا مادة باقية عنه لأن وجوده لم يكن بشركة المادة فكذا عدمه فعند انسداد الباب المانع عن الإفاضة ينعدم الشعاع عن البيت دفعة، ولا فرق في ذلك بين كونه عرضًا أو جوهرًا والسر فيهما جميعًا أن النور مطلقًا ليس حصوله من جهة انفعال المادة وشركة الهيولي كسائر الجواهر والاعراض الانفعاليات ولذلك لا ينعدم شيء منها دفعة لو فرض حجاب بنيها وبين المبدأ الفاعلي إلا بعد زمان واستحالة.وأما الذي ذكر ثالثًا فجوابه أن المغايرة في المفهوم لا تنافي الاتحاد والعينية في الوجود فما ذكر مغالطة من باب الاشتباه بين مفهوم الشيء وحقيقته، وأما المذكور رابعًا وخامسًا فلأن مبناه على الانفصال والقطع للمسافة لا على مجرد الجوهرية والجسمية.هذا وذهب بعضهم إلى أنه عرض من الكيفيات المحسوسة وقالوا: وغني عن التعريف كسائر المحسوسات، وتعريفه بأنه كمال أول للشفاف من حيث أنه شفاف أو بأنه كيفية لا يتوقف الإبصار بها على الأبصار بشيء آخر تعريف بما هو أخفى وكأن المراد به التنبيه على بعض خواصه.ومن هؤلاء من قال: إنه نفس ظهور اللون، ومنهم من قال بمغايرتهما واستدلوا بأوجه، الأول: أن ظهور اللون إشارة إلى تجدد أمر فهو إما اللون أو صفة نسبية أو غير نسبية والأول باطل لأن النور إما أن يجعل عبارة عن تجدد اللون أو اللون المتجدد، والأول: يقتضي أن لا يكون مستنيرًا إلا في آن تجدده، والثاني: يوجب كون الضوء نفس اللون فلا يبقى لقولهم: الضور هو ظهور اللون معنى، وإن جعلوا الضوء كيفية ثبوتية زائدة على ذات اللون وسموه بالظهور فذلك نزاع لفظي، وإن زعموا أن ذلك الظهور تجدد حالة نسبية فهو باطل لأن الضوء أمر غير نسبي وإلا لكان أمرًا عقليًا واقعًا تحت مقولة المضاف فلم يكن محسوسًا أصلًا لكن الحس البصري مما ينفعل عنه ويتضرر بالشديد منه حتى يبطل.والأمور الذهنية لا تأثر مثل هذا التأثير فإذا لم يكن أمرًا نسبيًا لم يمكن تفسيره بالحالة النسبية، الثاني: أن البياض قد يكون مضيئًا مشرقًا وكذا السواد فلو كان ضوء كل منهما عين ذاته لزم أن يكون بعض الضوء ضد بعضه وهو محال لأن ضد الضوء الظلمة، والثالث: أن اللون يوجد بدون الضوء كما في الجسم الملون في الظلمة وكذا الضوء يوجد بدن اللون كما في البلور إذا وقع عليه الضوء فهما متغايران لوجود كل منهما بدون الآخر، والرابع: أن الجسم الأحمر مثلًا لمضيء إذا انعكس عنه إلى مقابله فتارة ينعكس الضوء عنه إلى جسم آخر وتارة ينعكس منه اللون والضوء معًا إذا قويًا حتى يحمر المنعكس إليه فلو كان مجرد ظهور اللون لاستحال أن يفيد غيره لمعانًا ساذجًا، وليس لقائل أن يقول: هذا البريق عبارة عن إظهار اللون في ذلك القابل لأنه يقال: فلماذا إذا اشتد لون الجسم المنعكس منه ضوؤه أخفى ضوء المنعكس إليه وأبطله وأعطاه لون نفسه.وقال بعض المتأخرين: استقر الرأي على أن النور المحسوس بما هو محسوس عبارة عن نحو وجود الجوهر المبصر الحاضر عند النفس في غير هذا العالم وأما الذي في الخارج بإزائه فلا يزيد وجوده على وجود اللون والأوجه التي ذكرت لمغايرتهما مقدوحة، أما الوجه الأول: فهو مقدوح بأن ظهور اللون عبارة عن وجوده وهو صفة حقيقية من شأنها أن ينسب ويضاف إلى القوة المدركة وبهذا الاعتبار يقع له التجدد قولهم: يوجب أن يكون الضوء نفس اللون قلنا: نعم ولكنهما متغايران بالاعتبار كما أن الماهية والوجود في كل شيء متحدان بالذات متغايران بالاعتبار فإن النور والضوء يرجع معناه إلى وجود خاص عارض لبعض الأجسام والظلمة عبارة عن عدم ذلك الوجود الخاص بالكلية والظل عبارة عن عدمه في الجملة واللون عبارة عن امتزاج يقع بين حامل هذا الوجود النوري وحامل عدمه على أنحاء مختلفة فليست الألوان إلا مراتب تراكيب الأنوار والأدلة الموردة على أبطال ذلك ضعيفة فعلى هذا صح قولهم: النور هو ظهور اللون وصح أيضًا قول من يقول إنه غير الولن لأن النور بما هو نور لا يختلف إذ لا يعتبر فيه امتزاج ولا شوب مع عدم أو ظلمة والألوان مختلفة، وأما الوجه الثاني: فهو أيضًا مندفع بما مهد وبأن اللون وإن لم يكن غير النور إلا أن مراتب الأنوار مختلفة شدة وضعفًا، ومع هذا الاختلاف قد تختلف بوجوه أخر بحسب تركيبات وامتزاجات كثيرة تقع بين أعداد من النور وإمكانها وفعليتها وأصلها وفرعها واعداد من الظلمة أعني عدم ذلك النور وإملكها وفعليتها وأصلها وفرعها فإن هذه الألوان أمور رمادية في الأكثر أو متعلقة بها والمادة منبع الانقسام والتركيب بين الوجودات والإعدام والإمكانات فليس بعجب أن يحصل من ضروب تركيبات النور بالظلمة هذه الألوان التي نراها فتقع تلك الأقسام في محالها على الوجه المذكور ثم يقع عليها نور آخر بمقابلة المنير.ومن قال بأن النور عين اللون لم يقل بأن كل نور عين كل لون كما أن من قال بأن الوجود عين الماهية لم يقل بأن كل وجود عين كل ماحية ليلزمه أن لا يطرد وجود على وجود ولا تضاد وجود لوجود فالألوان متخالفة الأحكام وبعضها أمور متضادة لكن بما هي ألوان لا بما هي أنوار كما أن الموجودات متخالفة الأحكام وبعضها أشياء متضادة لكن بما هي ماهيات لا بما هي موجودات مع أن الوجود والماهية واحد، وأما الوجه الثالث: فسبيل دفعه سهل بما بين وكذا الوجه الرابع بأدنى أعمال روية فإن عدم ظهور اللون قد يكون لضعف اللمعان الواقع على شيء وقد يكون لشدة اللمعان فالواقع على المقابل من عكس المضيء الملون قد يكون ضوءه فقط وذلك عن قصور الضوء واللون أو قصور استعداد القابل المقابل وقد يكون كلاهما لقوتهما وقوة استعداد المنعكس إليه، على أن الكلام في مباحث العكوس طويل، وكون المنعكس من الجسم المضيء إلى جسم آخر ضوءه دون لونه ربما كان لأجل صقالته فإن الصقيل قد يكون ذا لون وضوء لكن المنعكس منه إلى مقابله ليس إلا ما حصل من نير آخر بتوسطه على نسبة وضعية مخصوصة بنيهما له إليهما لا اللون والضوء اللذان يستقران فيه فالمنعكس في ذلك المقابل ليس إلا الضوء فقط من ذلك النير لا من المنعكس منه إلا أن يكون المنعكس إليه أيضًا جسمًا صقيلًا فيقع فيه حكاية منهما أي الضوء واللّولن أو من أحدهما أيضًا.هذا غاية ما قالوه في النور المحسوس الذي يظهر به الأجسام على الأبصار؛ ولهم في النور إطلاق آخر وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره وقالوا: هو بهذا المعنى مساو للوجود بل نفسه فيكون حقيقة بسيطة كالوجود منقسمًا كانقسامه، فمنه نور واجب لذاته قاهر على ما سواه، ومنه أنوار عقلية ونفسية وجسمية، والواجب تعالى نور الأنوار غير متناهى الشدة وما سواه سبحانه أنوار متناهية الشدة بمعنى أن فوقها ما هو أشد منها وإن كان بعضها كالأنوار العقلية لا تقف آثارها عند حد، والكل من لمعات نوره عز وجل حتى الأجسام الكثيفة فإنها أيضًا من حيث الوجود لا تخلو عن نور لكنه مشوب بظلمات الاعدام والامكانات، إذا علمت هذا فاعلم أن إطلاق النور على الله سبحانه وتعالى بالمعنى اللغوي والحكمي السابق غير صحيح لكمال تنزهه جل وعلا عن الجسمية والكيفية ولوازمهما، وإطلاقه عليه سبحانه بالمعنى المذكور وهو الظاهر بذاته والمظهر لغيره قد جوزه جماعة منهم حجة الإسلام الغزالي فإنه قدس سره بعد أن ذكر في رسالته مشكاة الأنوار معنى النور ومراتبه قال: إذا عرفت أن النور يرجع إلى الظهور والإظهار فاعلم أن لا ظلمة أشد من كتم العدم لأن المظلم سمي مظلمًا لأنه ليس بظاهر للأبصار مع أنه موجود في نفسه فما ليس موجودًا أصلًا كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة وفي مقابلته الوجود وهو النور فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره، والوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ماله من غيره، فماله الوجود من غيره فوجوده مستعار لا قوام له بنفسه بل إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض وإنما هو وجود من حيث نسبته إلى غيره وذلك ليس بوجود حقيقي، فالوجود الحق هو الله تعالى كما أن النور الحق هو الله عز وجل، وقد قال قبل هذا: أقول ولا أبالي إن إطلاق اسم النور على غير النور الأول مجاز محض إذ كل ما سواه سبحانه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها بل بغيرها ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض، وفسر النور في هذه الآية أعني قوله تعالى: {الله نُورُ السموات والأرض} بذلك، ثم أشار إلى وجه الإضافة إلى {السموات والأرض} بقوله: لا ينبغي أن يخفى عليك ذلك بعد أن عرفت أنه تعالى هو النور ولا نور سواه وإيه كل الأنوار والنور الكلي لأن النور عبارة عما تنكشف به الأشياء وأعلى منه ما تنكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده بل ذلك له في ذاته لذاته لا من غيره، ثم عرفت أن هذا لا يتصف به إلا النور الأول، ثم عرفت أن السموات والأرض مشحونة نورًا من طبقتي النور أعني المنسوب إلى البصر والمنسوب إلى البصيرة أي إلى الحسن والعقل كنور الكواكب وجواهر الملائكة وكالأنوار المشاهدة المنبسطة على كل ما على الأرض وكأنوار النبوة والقرآن إلى غير ذلك وهذا منزع صوفي والصوفية لا يتحاشون من القول بأنه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا هو الكل بل هو هو لا هوية لغيره إلا بالمجاز ويقولون: لا إله إلا الله توحيد العوام ولا إله إلا هو توحيد الخواص لأنه أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل لصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة، وقد قال بذلك الغزالي في رسالته المذكورة أيضًا، وأنت تعلم أنه مما لا يهتدي إليه بنور الاستدلال بل هو طور وراء طور العقل لا يهتدي إليه بنور الله عز وجل.
|